Feb 11, 2017

كراهية الشعر في الإسلام

ليس في القرآن سورة باسم الروائيين، ولا سورة باسم الرسامين أو الموسيقيين، لكن هناك سورة باسم الشعراء، السورة التي تمثل مرجعاً رئيساً في فهم موقف الإسلام من النص المقدس عن المدنس. وبذا فإن عبارة "الشعر ديوان العرب" ليست مجرد كليشيه، فالشعر رأسمالنا وخلاصة نزعتنا الإنسانية التي تظل تقاوم وتنجو عبر القرون كي نختلق ونخلق ونحب ونتمتع.

الشعر كل سحرنا، لدرجة أن الله حينما أصدر كتابه قالوا عنه محاولة شعرية، فهل يقترب الشعر بنا إلى الإلوهية أم أنه يمنح الرب بعضاً من إنسانيتنا الخالدة؟ لم يكترث الشعر بأن يكون خصماً للمقدس لأنه بارع في استباحة كل المساحات دخولاً وخروجاً، إلا أنه ظل نداً لوحش الدين الذي يكبر كل يوم ويزداد قبحاً. كل التراكمات الحضارية للعرب زائلة، علومهم وفلسفاتهم وتراجمهم زائلة، ومعالمهم المعمارية قد يفجرها مراهق أحمق أو تقصفها طائرات أميركية، كل شيء قد يزول إلا قوة الشعر. 


من سورة الشعراء، يردد المدجنون الآية الشهيرة "الشعراء يتبعهم الغاوون" كي يقذفونا بحجر. حاول بعض الشعراء بظرافة أن يجعلوا من هذه الآية مديحاً لهم، أن يسرقوا الغواية من معناها السلبي الذي يرهبنا الدين منه. حينما تذهب لقراءة تفاسير الآية، يكتب الشيوخ أن الشعراء هم الشياطين أو "العُصاة من الجن"، وكأنهم بذلك إبليس الذي رفض أن يسجد. مئات السنين انقضت، وما زال الشعر واقفاً عند رفضه، هو العبد وهو الملك. فهل ننسى ابن القارح (بطل رسالة الغفران) الذي أوصلته كلماته إلى سابع سماء وجعل يدخل الجنة فيلتقي بشعراء مثل الأعشى والنابغة الذبياني؟ وكيف يعي الواحد منا روعة الجنة ولا شعراء فيها ليقوموا بوصفها؟ أو هل ننسى لقاء ابن القارح بالحطيئة الذي ذهب (القارئ) يشتكيه عند أمير المؤمنين فأخذ الأخير بوشاية شاعر آخر عن فحوى قصيدته ليحبس الحطيئة. ولولا أنه شاعر لما استعاد الحطيئة حريته ببضع أبيات، لكنه لم يتب عن سحره فانتظر موت الأمير ليعود مرة أخرى للهجاء الذي برع وتمتع به. 

ومن بعد الجنة، ذهب ابن القارح إلى النار، ليلتقي بالصعاليك والفرسان من الشعراء أمثال امرئ القيس وعنترة وطرفة والأعشى. وهم بعض الشعراء الذين رأى طه حسين في شعرهم جماليات وحكايات أقرب إلى عصور الإسلام الأولى، وكأنها بذلك سرديات مختلقة لتعريف الحياة التي جاء الإسلام للقضاء عليها. وكانت دراسة طه حسين هذه قد أرعبت المؤسسة الدينية، ففيها محاولة للتعامل مع الديني باعتباره "نَصّاً" بل وكنَصٍّ أدبي أيضاً. وبذا أعاد عميد الأدب على مسامعهم تهمة الشعر التي يرتعدون ويستشيطون منها غضباً. والمشكلة أنهم يجهلون تاريخ الشعر العربي وأسطورة وادي عبقر الذي يذهب الشاعر إليه فتنزل الكلمات عليه وحياً وينطق بها. أي أن الشعر يسبق الأديان في اعتقاده بأن للكلمة أصلاً في حياة مقابلة أو سماء عالية! لقد خلق الشعراء الصور والحكايات كلها ولم يبق لأصحاب النصوص بأجناسهم المدنسة والمقدسة سوى الكتابة فوق الكتابة! 

ما يمكننا فهمه أن المقدس يستمد قوته من إقصاء وقمع المدنس، فهؤلاء الذين نصبوا أنفسهم حماة للنص المقدس لا ينفكون يفرقون بينه وبين الشعر. ولولا فضل الشعر في تخصيب مخيلة البشر، لما قبلت عقولهم بنصوص الموروث والمقدس التي تستمد قوتها من الجماليات الأدبية لسحر القارئ والأخذ بعقله الميكانيكي إلى القبول بالأساطير الملحمية والتراجيديات المؤلمة. وبذا، فإن قمع المقدس للمدنس يأتي كصراع على امتلاك مفتاح الخيال، وكأن الأول يريد أن ينفرد بالساحة الأدبية لنفسه. ومن هنا نفهم اغتيال الحلاج الذي قالوا أنه قد كفر، فاعترضت جماعته شارحة: بل إنه أفشى أسرار الرب. وحدهم الشعراء يفشون أسرار الرب ويقلقونه فينافسهم في صنعتهم. 

ومن هنا أيضاً نفهم العريضة الهزيلة لحكم المحكمة بإعدام الشاعر الفلسطيني، أشرف فياض، والتي تعاملت مع ديوانه "التعليمات بالداخل" وكأنه مشروع دعوي سري: "ودائماً يطرح فلسفته الإلحادية في المواقع التي يجتمع فيها مع بعض الأشخاص وفي المعلومات المتوافرة عنه أنه عاود نشاطه بعد خروجه من التوقيف في بداية هذه القضية ويتواجد في المقهى المذكور ويطرح أفكاره وله كتاب يقوم بعرضه على من يثق بهم يتضمن مثل هذه الأفكار". ووجدت المحكمة في قصائد أشرف استهزاء بالدين والقضاء والقدر والبعث، لأن المقدس يسير بمنطق واحد، أن الكلام كله إما يكون معه أو ضده وبذا فهو خطر عليه حتى وإن حرسته الملوك والملائكة. ومن طرائف هذا الحكم اقتباسه من قصيدة للشاعر يقول فيها "الشمس ترقد في الفراش لأن حرارتها مرتفعة" باعتبارها سخرية من الشمس! فالمقدس لا يكتفي بكونه مجموعة من المعتقدات والشرائع، بل ينصب نفسه أيضاً ملكاً على الطبيعة والإنسان وما بينهما. 

منذ البدء وحتى اللحظة، لم يسلم أي من مدّعي النبوة، من سيف الإسلام، واستفحل الأمر فصار ملوكه وشيوخه يفتشون في نوايا وخيالات وهلاوس الناس بحثاً عن أنبياء جدد لقتلهم وسجنهم وجلدهم. إن التمثيل والتنكيل بالأديب العربي اليوم، وفي الأمس، ليس مجرد قضية سياسية تتعلق بالحريات والتعبير، بل هي حالة في صلب الثقافة العربية التي تتقلب عبر العصور بين منتج أدبي ومعرفي جامح في كل الاتجاهات، وسلطة مركزية تكتم على أنفاسنا بجسدها المترهل الخامل. قد يحل الصمت قليلاً، لكن الأمير سيموت ذات يوم، وسيركض الشاعر إلى واديه ليهيم فيه فيهذي ويكتب ويغني.

* نشرت في موقع المدن

No comments:

Post a Comment